من الأسئلة المتكررة حالياً: من يقود الثورة الشبابية العربية؟ وما هي توجهاتهم؟ أتاحت لي الظروف في مصر أن أقترب من إحدى مجموعات الثورة، وقد سميتهم نمط "تشي"، وهو اسم التدليل لإرنستو جيفارا، الطبيب الوسيم، الأرجنتيني المولد، ولكنه هجر موطنه لينخرط في ثورات قارته -أميركا اللاتينية- حتى نجحت الثورة الكوبية بقيادة كاسترو عام 1959، وأصبح وزيراً للصناعة في هافانا بين عامي 1961 و1965، لكنه هجر منصبه الرسمي ليواصل مشروعه الثوري، حتى تمكنت بعض نظم الحكم في أميركا اللاتينية من اغتياله، بمساعدة الاستخبارات الأميركية، في أدغال بوليفيا وكان في أوج شبابه (39 عاماً). أصبح "تشي" رمزاً للثورة الشبابية التي يقودها الشباب ذوو التعليم الجيد والتوجه اليساري، وأصبح نمطه في قيادة الثورة يسيطر على معظم الشارع العربي حالياً. ورغم أن هذه الانتفاضات الثورية لا تزال في مهدها، وبالتالي لا تزال المعلومات الموثقة بشأنها شحيحة ومتفرقة، فثمة خاصيتان أساسيتان لقيادتها: 1- أنها قيادة شبابية، فالشاب محمد بوعزيزي الذي أضرم النار في نفسه فأشعل موته الثورة في تونس، كان حديث التخرج من الجامعة، ولم يجد عملاً غير بيع الخضراوات في الشارع. 2- تحولت هذه الشرارة الشبابية إلى ثورة مجتمعية شاملة، لكنها لا تزال تتكون من جماعات مختلفة، وأحياناً غير متجانسة، لكن هدفاً واحداً يجمعها: تغيير هذا الوضع، ولو من خلال "الثورة الدائمة" والبقاء في ميدان التحرير إلى ما لا نهاية. لقد أصبح ميدان التحرير رمزاً لـ"الثورة الدائمة" كما نظَّر لها الناشط اليساري تروتسكي في ثلاثينيات القرن الماضي، وجسَّدها "تشي". ورغم عدد شهداء ثورة الشارع العربي، فإن ما يجسده "تشي" بينهم لا يزال حياً يرزق يمارس نشاطه بحماس، بل بزهد قلّ وجوده وقد أصبح أهمّ طاقات هذه الثورة، ليس فقط بمفرده أو كشخص، لكن كنمط حياة. ما هو إذن نمط "تشي" هذا الذي يقود الثورة الشبابية الآن؟ 1- بينما يتحدث العالم عن أن الثورة الحديثة في العالم الإسلامي قد تكون على النمط الإيراني، فإن نمط "تشي" الذي يمثله هذا الشاب القيادي الذي التقيته في ميدان التحرير، ليس كذلك بالمرة، ففي أول مقابلة لي معه في قاعات الدرس قبل 13 عاماً تجادلنا حول النظرية الماركسية وأهميتها في فهم المجتمع وتشكيل التاريخ. هو إذن قارئ نهم حتى، وإن لم يتجاوز سن العشرين ربيعاً حينها. 2- تجذر لديه هذا الشغف بالمعرفة والقراءة منذ الطفولة، فأبواه لا يهتمان بالمادة إلا لضمان العيش الكريم، لا يجريان وراء الهبات والمنح، وبالتالي يتعلم "تشي" في المنزل أهمية قيم الأمانة، وعدم الغش أو الفساد. كان أبوه يسارياً، ورغم أنه أصبح من القيادات العلمية في واحدة من أعرق الجامعات المصرية، فقد قاوم الإغراء لكي لا ينخرط في الحزب الحاكم، ولكي لا يصبح وزيراً مثل كثير من زملائه، بل أصبح الرفض نوعاً من المقاومة السياسية، حتى أنه رفض وضع صورة الرئيس في أعلى الحائط خلفه، كما هي عادة معظم الذين يتبوؤون المناصب الرسمية العليا. أما الأم فهي متعلمة أيضاً، وذلك لاهتمامها بالقراءة وتتبع أحوال المجتمع ثم تدعيمها لقيم زوجها في النزاهة والشرف. وهكذا تشرَّب "تشي" المصري نمط قيمه وشخصيته منذ طفولته. 3- "تشي" المصري حسن التنشئة والتعليم، ولم يكتف بكبريات الجامعات، بل يطبق أيضاً المقولة العربية: أهمية العلم أن يُنتفع به، أي يوضع في خدمة الآخرين. فيقوم بتدريب زملائه الصغار على التهام المعرفة والقدرة على التنظيم لخدمة الطبقات الدنيا في المجتمع. وحتى إذا أصبح بعض "تلاميذه وتلميذاته" أكثر شهرة منه على صفحات الجرائد والإعلام المرئي، فهذا لا يصيبه بالحسد، بل يواصل طريقه في العطاء دون انتظار الثمن، بل هو من يدفع ثمن نقائه الثوري غالياً. لا زلت أتذكر يوم اختطفه البوليس السري لدى خروجه من قاعات الدرس عندي، ولم احتمل رؤية مكانه شاغراً، فمارسنا الضغوط مع زملائه على قيادة الجامعة حتى تم الإفراج عنه، وقد تعرض للتعذيب وهو لم يكمل الثالثة والعشرين. لكن ما النقص في "تشي" ونمط ثورته؟ أعترف بأني أقلق من عدم قدرة الآخرين على مجاراة نقائه ومثاليته، وبالتالي احتمال شعوره بعد تفجر الثورة بخيبة الأمل وحتى الانسحاب لكي يقطف ثمار جهده الثوري بعض الأقل كفاءة والتزاماً بالتغيير الاجتماعي. سيعتمد المستقبل العربي على ما إذا كان "تشي" قادراً على أن يصبح كاسترو، أم أنه سيتحول من نمط تروتسكي و"ثورته الدائمة" ليصبح لينين الذي أنشأ الدولة السوفييتية الوليدة. بمعنى آخر هل يستطيع "تشي" العربي تحويل رصيده في النقاء الثوري إلى موهبة إدارة مجتمع لا تزال الثورة في أشد الحاجة إليه، أم أن هذه الثورة ستخسره وتخسر نفسها كما حدث مع جيفارا في أميركا اللاتينية؟